فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي: في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب}
يعني: اليهود والنصارى {والمشركين} يعني: عبدة الأوثان {مُنفَكّينَ} يعني: غير منتهين عن كفرهم، وعن قولهم الخبيث {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} يعني: حتى أتاهم البيان، فإذا جاءهم البيان، فريق منهم انتهوا وأسلموا، وفريق ثبتوا على كفرهم.
ويقال: لم يزل الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، حتى وجب في الحكمة علينا في هذا الحال، إرسال الرسول إليهم.
ويقال: معناه لم يكونوا منتهين عن الكفر، حتى أتاهم الرسول والكتاب، فلما آتاهم الكتاب والرسول، تابوا ورجعوا عن كفرهم، وهم مؤمنو أهل الكتاب، والذين أسلموا من مشركي العرب.
وقال قتادة: {البينة} أراد به محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقال القتبي: {مُنفَكّينَ} أي: زائلين يقال: لا أنفك من كذا أي: لا أزول.
قوله تعالى: {رَسُولٌ مّنَ الله يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} يعني: قرآنا مطهرًا من الزيادة والنقصان.
ويقال: مطهرًا من الكذب، والتناقض ويقال: {صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} أي: أمور مختلفة.
ويقال: سمي القرآن صحفًا، من كثرة السور {فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ} يعني: صادقة مستقيمة لا عوج فيها.
ويقال: كتب قيمة، يعني: تدل على الصواب والصلاح، ولا تدل على الشرك والمعاصي.
ثم قال عز وجل: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} يعني: وما اختلفوا في محمد صلى الله عليه وسلم، وهم اليهود والنصارى {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} يعني: بعدما ظهر لهم الحق، فنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: {وَمَا أمرواْ} يعني: وما أمرهم محمد صلى الله عليه وسلم {إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله} يعني: ليوحدوا الله.
ويقال: {وَمَا أمرواْ} في جميع الكتب، {إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله} يعني: يوحدوا الله {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين حُنَفَاء} مسلمين.
روي عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه قال: {حُنَفَاء} يعني: متبعين.
وقال الضحاك {حُنَفَاء} يعني: حجاجًا يحجون بيت الله تعالى. ثم قال: {وَيُقِيمُواْ الصلاة} يعني: يقرون بالصلاة، ويؤدونها في مواقيتها {وَيُؤْتُواْ الزكواة} يعني: يقرون بها ويؤدونها {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} يعني: المستقيم لا عوج فيه، يعني: الإقرار بالتوحيد، وبالصلاة والزكاة، وإنما بلفظ التأنيث {القيمة} لأنه انصرف إلى المعنى، والمراد به الملة، يعني: الملة المستقيمة لا عوج فيها.
يعني: هذا الذي يأمرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وبهذا أمروا في جميع الكتب.
ثم قال عز وجل: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} يعني: الذين جحدوا من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن ومن مشركي مكة، وثبتوا على كفرهم {فِى نَارِ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا} يعني: دائمين فيها {أَوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ البرية} يعني: شر الخليقة.
قرأ نافع وابن عامر {البريئة} بالهمزة، والباقون بغير همزة. فمن قرأ بالهمزة، فلأن الهمزة فيها أصل. ويقال برأ الله الخلق، ويبرؤهم وهو الخالق البارئ.
ومن قرأ بغير همزة، فلأنه اختار حذف الهمزة وتخفيفها.
ثم مدح المؤمنين، ووصف أعمالهم، وبين مكانهم في الآخرة، حتى يرغبوا إلى جواره فقال: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} يعني: صدقوا بالله، وأخلصوا بقلوبهم وأفعالهم، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تابعهم إلى يوم القيامة {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البرية} يعني: هم خير الخليقة.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص «والله للمؤمن أكرم على الله تعالى من بعض الملائكة الذين عبدوه» وروي عن الحسن، أنه سئل عن قوله: {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البرية} أهم خير من الملائكة؟ قال: ويلك أين تعدل الملائكة، من الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ثم بين ثوابهم فقال عز وجل: {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ} يعني: ثوابهم في الآخرة {جنات عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} يعني: أنهار من الخمر، والعسل، واللبن، وماء غير آسن {خالدين فِيهَا أَبَدًا} يعني: دائمين مقيمين فيها {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} بأعمالهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} بثوابه الجنة {ذلك} يعني: هذا الثواب الذي ذكر {لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} يعني: وَحَّدَ ربه في الدنيا، واجتنب معاصيه والله أعلم. اهـ.

.قال الثعلبي:

سورة البينة:
{لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب}
وهم اليهود والنصارى، والمشركون وهم عبدة الأوثان، {مُنفَكِّينَ} منتهين عن كفرهم وشركهم، وقال أهل اللغة: زائلين، يقول: العرب: ما انفكّ فلان يفعل كذا، أي ما زال، وأصل الفكّ الفتح، ومنه فكّ الكتاب، وفكّ الخلخال، وفكّ البيالم وهي خورنق العطر، قال طرفة:
وآليت لا ينفك كشحي بطانة ** لعضب رقيق الشفرتين منهد

{حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} الحجّة الواضحة وهي محمد عليه السلام أتاهم بالقرآن فبيّن لهم ضلالتهم وجهالتهم، وهداهم إلى الإيمان، وقال ابن كيسان معناه لم يكن هؤلاء الكفار تاركين صفة محمد عليه السلام حتى بعث، فلمّا بعث تفرّقوا فيه.
ثم فسّر البيّنة فقال: {رَسُولٌ مِّنَ الله}. فأبدل النكرة من المعرفة كقوله: {ذُو العرش المجيد فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 15-16].
{يَتْلُواْ} يقرأ {صُحُفًا} كتبًا {مُّطَهَّرَةً} من الباطل {فِيهَا كُتُبٌ} من اللّه {قَيِّمَةٌ} مستقيمة عادلة {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} في أمر محمد عليه السلام فكذّبوه {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البينة} البيان في كتبهم أنه نبيٌّ مرسل.
قال العلماء: من أول السورة إلى قوله: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} حكمها في من آمن من أهل الكتاب والمشركين، {وَمَا تَفَرَّقَ} حكمه في من لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجج عليها.
قال بعض أئمّة أهل اللغة قوله: {مُنفَكِّينَ} أي هالكين من قوله انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن تنفصل ولا يلتئم فهلك، ومعنى الآية: لم يكونوا هالكين أي معذّبين إلاّ بعد قيام الحجّة عليهم بإرسال الرسول وإنزال الكتب.
وقرأ الأعمش {والمشركون} رفعًا، وفي مصحف عبد اللّه {لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكّين} وفي حرف أُبيّ {ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة رسولا من اللّه} بالنصب على القطع والحال.
{وَمَآ أمروا} يعني هؤلاء الكفار {إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ} يعني إلاّ أن يعبدوا اللّه مخلصين له الدين التوحيد والطاعة {حُنَفَاءَ} مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام.
وقال ابن عباس: حجاجًا، وقال قتادة: الحنيفية هي الختان وتحريم الأُمّهات والبنات والأخوات والعمّات والخالات، وإقامة المناسك.
وقال سعيد بن حمزة: لا تسمي العرب حنيفًا إلاّ من حجّ واختتن {وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكاة وَذَلِكَ} الذي ذكرت {دِينُ القيمة} المستقيّمة فأضاف الدين إلى القيّمة وهو أمر فيه اختلاف اللفظين وأنّث القيّمة لأنّه رجع بها إلى الملّة والشريعة، وقيل: الهاء فيه للمبالغة.
سمعت أبا القاسم الحنبلي يقول: سمعت أبا سهل محمد بن محمد بن الأشعث الطالقاني يقول: إن القيّمة هاهنا الكتب التي جرى ذكرها، والدين مضاف إليها على معنى: وذلك دين الكتب القيّمة فيما يدعو إليه ويأمر به، نظيرها قوله سبحانه: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ} [البقرة: 213].
وقال النضر بن شميل: سألت الخليل بن أحمد عن قوله سبحانه: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} فقال: القيّمة جمع القيّم، والقيّم والقائم واحد ومجاز الآية: وذلك دين القائمين لك بالتوحيد.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أولئك هُمْ شَرُّ البرية} الخليقة، قرأ نافع البرئة بالهمزة في الحرفين ومثله روى ابن ذكوان عن أهل الشام على الأصل لأنه من قولهم: برأ اللّه الخلق يبرأهم برءًا، قال اللّه سبحانه: {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} [الحديد: 22].
وقرأ الآخرون بالتشديد من غير همزة، ولها وجهان:
أحدهما أنه ترك الهمزة وأدخل الشبه به عوضًا منه.
والآخر أن يكون (فعيلة) من البراء وهو التراب، تقول العرب: بفيك البراء فمجازه: المخلوقون من التراب.
{إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا رِّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}.
قال الصادق رضي الله عنه: بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق، ورضوا عنه بما منَّ عليهم بمتابعتهم لرسوله، وقبولهم ما جاءهم به، أي أن بيان رضا الخلق عن اللّه رضاهم بما يرد عليهم من أحكامه ورضاه عنهم أن يوفّقهم للرضا عنه.
محمد بن الفضيل: الرَّوح والراحة في الرضا واليقين، والرضا باب اللّه الأعظم ومستراح العابدين. محمد بن حقيق: الرضا ينقسم قسمين: رضًا به ورضًا عنه، فالرضا به ربًّا ومدبّرًا، والرضا عنه فيما يقضي ويقدّر.
وقيل: الرضا رفع الاختيار. ذي النون: الرضا: سرور القلب لمرِّ القضاء. حارث: الرضا سكون القلب تحت جريان الحكم. أبو عمرو الدمشقي: الرضا نهاية الصبر. أبو بكر بن طاهر: الرضا خروج الكراهية من القلب حتى لا يكون إلاّ فرح وسرور. الواسطي: هو النظر إلى الأشياء يعني الرضا حتى لا يسخطك شيء إلاّ ما يسخِط مولاك. ابن عطاء: هو النظر إلى قديم إحسان اللّه للعبد فيترك السخط عليه.
سمعت محمد بن الحسين بن محمد يقول: سمعت محمد بن أحمد بن إبراهيم يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت علي بن عبد الحميد يقول: سمعت السهمي يقول: إذا كنت لا ترضى عن اللّه فكيف تسأله الرضا عنك؟. اهـ.

.قال الزمخشري:

سورة البينة:
مكية، وقيل: مدنية.
وآياتها 8.
نزلت بعد الطلاق.
بسم الله الرحمن الرحيم

.[سورة البينة: الآيات 1- 8]

{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)}
كان الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأصنام يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم: لا ننفك مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فحكى اللّه تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال: {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} يعنى أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق: إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه: لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني اللّه الغنى، فيرزقه اللّه الغنى فيزداد فسقا، فيقول واعظه: لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار: يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما.
وانفكاك الشيء من الشيء. أن يزايله بعد التحامه به، كالعظم إذا انفك من مفصله، والمعنى: أنهم متشبثون بدينهم لا يتركونه إلا عند مجيء البينة. و{الْبَيِّنَةُ} الحجة الواضحة. و{رَسُولٌ} بدل من {البينة}. وفي قراءة عبد اللّه: {رسولا}، حالا من {البينة} {صُحُفًا} قراطيس {مُطَهَّرَةً} من الباطل {فِيها كُتُبٌ} مكتوبات {قَيِّمَةٌ} مستقيمة ناطقة بالحق والعدل والمراد بتفرقهم: تفرقهم عن الحق وانقشاعهم عنه. أو تفرقهم فرقا، فمنهم من آمن، ومنهم من أنكر وقال: ليس به، ومنهم من عرف وعاند.
فإن قلت: لم جمع بين أهل الكتاب والمشركين أوّلا ثم أفرد أهل الكتاب في قوله: {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ}؟
قلت: لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم، فإذا وصفوا بالتفرق عنه كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف {وَما أمروا} يعنى في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي، ولكنهم حرفوا وبدلوا {وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي دين الملة القيمة. وقرئ: {وذلك الدين القيمة}، على تأويل الدين بالملة.
فإن قلت: ما وجه قوله: {وَما أمروا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ}؟
قلت: معناه: وما أمروا بما في الكتابين إلا لأجل أن يعبدوا اللّه على هذه الصفة.
وقرأ ابن مسعود: {إلا أن يعبدوا}، بمعنى: بأن يعبدوا. قرأ نافع: {البريئة} بالهمز، والقراء على التخفيف. والنبىّ، والبرية: مما استمر الاستعمال على تخفيفه ورفض الأصل وقرئ: خيار البرية: جمع خير، كجياد وطياب: في جمع جيد وطيب.
عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ لم يكن كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقبلا». اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {لم يَكُنِ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكينَ مُنفَكِّينَ}
معناه لم يكن الذين كفروا من اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب، ولم يكن المشركون الذين هم عبدة الأوثان من العرب، وغيرهم الذين ليس لهم كتاب..
{منفكين} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: لم يكونوا منتهين عن الشرك {حتى تأتيهم البَيِّنَةُ} حتى يتبين لهم الحق. وهذا قول ثان: لم يزالوا مقيمين على الشرك والريبة حتى تأتيهم البينة، يعنى الرسل، قاله الربيع.
الثالث: لم يفترقوا ولم يختلفوا أن الله سيبعث إليهم رسولًا حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وتفرقوا، فمنهم من آمن بربه، ومنهم من كفر، قاله ابن عيسى.
الرابع: لم يكونوا ليتركوا منفكين من حجج الله تعالى، حتى تأتيهم البينة التي تقوم بها عليهم الحجة، قال أمرؤ القيس:
إذا قُلْتُ أَنْفَكَّ مِن حُبّها ** أبى عالقُ الحُبِّ إلا لُزوما

وفي {البيّنة} ها هنا ثلاثة أوجه:
أحدها: القرآن، قاله قتادة.
الثاني: الرسول الذي بانت فيه دلائل النبوة.
الثالث: بيان الحق وظهور الحجج.
وفي قراءة أبيّ بن كعب: ما كان الذي كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين، وفي قراءة ابن مسعود: لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين.
{رسولٌ مِن الله} يعني محمدًا.
{يَتْلُواْ صُحُفًا مُطَهّرَةً} يعني القرآن.
ويحتمل ثانيًا: يتعقب بنبوته نزول الصحف المطهرة على الأنبياء قبله. وفي {مطهرة} وجهان:
أحدهما: من الشرك، قاله عكرمة.
الثاني: مطهرة الحكم بحسن الذكر والثناء، قاله قتادة.
ويحتمل ثالثًا: لنزولها من عند الله.
{فيها كُتُبٌ قَيِّمةٌ} فيه وجهان:
أحدهما: يعني كتب الله المستقيمة التي جاء القرآن بذكرها، وثبت فيه صدقها، حكاه ابن عيسى.
الثاني: يعني فروض الله العادلة، قاله السدي.
{وما تَفَرَّقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} يعني اليهود والنصارى.
{إلاّ مِن بَعْدِ ما جاءتْهم البْيِّنَةُ} فيه قولان:
أحدهما: القرآن، قاله أبو العالية.
الثاني: محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن شجرة.
ويحتمل ثالثًا: البينة ما في كتبهم من صحة نبوته.
{وما أمروا إلاّ ليَعْبُدوا الله مُخْلِصينَ له الدِّينَ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: مُقِرِّين له بالعبادة.
الثاني: ناوين بقلوبهم وجه الله تعالى في عبادتهم.
الثالث: إذا قال لا إله إلا الله أن يقول على أثرها {الحمد لله}، قاله ابن جرير.
ويحتمل رابعًا: إلا ليخلصوا دينهم في الإقرار بنبوته.
{حُنفاءَ} فيه ستة أوجه:
أحدها: متبعين.
الثاني: مستقيمين، قاله محمد بن كعب.
الثالث: مخلصين، قاله خصيف.
الرابع: مسلمين، قاله الضحاك، وقال الشاعر:
أخليفة الرحمنِ إنا مَعْشرٌ ** حُنفاءُ نسجُدُ بُكرةً وأصيلًا

الخامس: يعني حجّاجًا، قاله ابن عباس؛ وقال عطية العوفي: إذا اجتمع الحنيف والمسلم كان معنى الحنيف الحاج وإذا انفرد الحنيف كان معناه المسلم، وقال سعيد بن جبير: لا تسمي العرب الحنيف إلا لمن حج واختتن.
السادس: أنهم المؤمنون بالرسل كلهم، قاله أبو قلابة.
{ويُقيموا الصّلاةَ ويُؤْتُوا الزّكاةَ وذلكَ دينُ القَيِّمَةِ} وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: معناه وذلك دين الأمة المستقيمة.
الثاني: وذلك دين القضاء القيم، قاله ابن عباس.
الثالث: وذلك الحساب المبين، قاله مقاتل.
ويحتمل رابعًا: وذلك دين من قام لله بحقه.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أولئك هُمْ شَرُّ البرية إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا رِّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}. اهـ.